ليلة ٌ أمطرت ذكريات
في احد ليالي كانون الباردة كانت السماء ترتدي معطفها الأسود المخملي وتبسط يداها بأذن الرحمن لتنثر فوق الأرض أمطار تشبه الحبال بشكلها
وتشبه الشلالات بغزارتها
وكانت كل الشوارع مظلمة" واختفت منها الحياة البشرية كان وحده ذلك الشاب يتجول ويمضي بين أزقة دمشق القديمة وحده ولكن كانت معه حبات المطر التي كانت تداعب أذنيه عندما كانت تتسلل من فوق رأسه بعد أن تبلل شعره الأشقر وتغسل من عقله المتصارع بالأفكار بين الحقيقة وبين الوهم كل الأحلام الصيفية التي رسمها في هذا العقل المتعب لإنسانةٌ أضاعت سنون عمره بين العشق والخداع وبين الحقيقة والخيال وبين غنى الجمال وعسر الحال وفقر المال
فأن تلك الفتاة كان يغرها فيه جماله و وسامت وجهه وأحيانا" طيبة قلبه . أما جيبه المثقوبة كانت لا تعجبها فهي تريد بأن تبلغ حياة الأمراء والأثرياء ولا تبرح حتى أن تبلغُ ذلك الحلم حتى لو كان حلمها على حساب مشاعر أناسٌ آخرون فكيف لو كان على حساب قلب أحبها بصدق .
وبين مفرق الجمال وفقر الحال فارقت مملكته من كانت الأميرة فيها بجملة قصيرة ( لن أجد تحقيق أحلامي بين ذراعين حبك )
كان هذا الشاب يمضي ولا يجد أحدا" يشاركه تلك الذكريات سوى حبات المطر التي تتدلى من أذنيه لتستقر بين شفتيه الصادقة التي كان يبوح بحبه فيهما لتلك الأميرة المزيفة التي أبت أن تكون أميرة حقيقية في مملكة العشق وفضلت مملكة الأثرياء والمال
كان يبوح لحبات المطر عن تلك الحبيبة التي همشت أشلاء قلبه
وبعثرت سنين عمره حول حياته كما تصطف أوراق الشجر في فصل الخريف حول شجرة عمرها فما نفع تلك الوريقات الصفراء
حين تفارق من عاشت معها حولا" أو أكثر فوق أغصانٌ كانت تحملها وتحميها من الاصفرار .
وحين وصل إلى أحد شوارع الأثرياء وقصور الأمراء وبالتحديد عند قصرٌ عظيم نظر إلى الجهة اليمينية وإذ بفتاةٌ تجلس على رصيف صغير ترتجف من بردها وأصوات ثغريها تكاد تتفجر في فمها و نشوة بكائها تكاد تهمش جدران ذاك المكان العظيم
وظلام ذاك المكان وتلك الليلة لم تساعده لرؤية صاحبة الصوت
اقترب منها علها تحتاج لمساعدةٌ ما
فوقف فوق رأسها ملفت" نظرها بصوت سعاله الناعم .
وحين نظرت إلى وجهه وإذ هي تلك الأميرة التي كانت تسكن قصره المرصع بعشقه ومروجه التي كانت تستمد لونها الأخضر من قلبه الصادق .
عندما تلاقت عيونهما صمت حولهم للحظة كل شيءٌ في المكان صوت الرياح وحفيف الأشجار وما كان يسمع بتلك اللحظة سوى أصوات قلوب تخفق بشدة .
بهر الشاب بذاك المنظر وبهرت الفتاة
ورحلت كل الجمل والمفردات من عقلهما فلقد كان قد مر أكثر من سبعة أعوام عن وداعهما الأخير
وسرعان ما استعاد ذاك الشاب وعيه إلى عقله .
وقبل أن يسألها عن حالها راح يسألها ماذا تفعلين هنا ولماذا أنت بهذا الحال .
فأجابته هذا هو القصر الذي كنت أعيش به وطردت منه للتو
في شجار دار بيني وبين بعلي وقد كان أخره قرار انفصالي وطلاقي .
فرماني هاهنا وكأنني متسولةٌ في الطريق وكما تعلم بأن بلدتنا بعيدةُ من هنا
فجلست على هذا الرصيف أندب حظيً المشئوم وقلبيً المجروح
وصدقني لم يأخذني عقلي سوى برحلة قصيرة إلى عالمك بهذا اللحظة تذكرت كم حبك لي كبير وذكرتني حبات المطر بيوم عيد ميلادي عندما كنا نمضي وكنت تخبئني من حبات المطر .
وكنت أقارن قبل دخولك ألي بين ذاك الموقف وهذا الأمير العاجي
الذي يتلذذ بكأس نبيذه ويجلس أمام ضوء المدفئة ولم يسأل عني
كان بطل قصتنا يسمع كلاماتها التي ترافقها دموعٌ لا يعرف أن كانت دموع تكذب كعادتها فصدق تلك الدموع أصبحت بالنسبة له تشبه تلك الفتاة كان يسمع قصتها وهو يعود للذكريات ليشاهد شريط ذكرياته معها .
فما كان من شيمته ونبله إلا أن يصطحبها معه إلى منزله .
وحين وصولهما دخلت معه وبهرت بجمال منزله فسألته أهذا المنزل لكَ فأجابها أنه رزق ربي الذي لا ينسى عبده .
الله رزقني من حيث لم احتسب .
فأعطاها ثياب جديدة
وأمرها بأن تدخل إلى أحد الحجرات لتبدل ثيابها المبتلة التي كان بردها يأكل من عظامها .
عند دخولها لأحدى الحجرات فوجئت بصورةٌ كبيرة جدا" لها تحتل أحد جدران تلك الحجرة سالت من عيناها دموعٌ كادت تقتل قلبها
وعندما انتهت خرجت له مسرعة ٌ تريد أن ترمي جسدها المتعب فوق أصدق صدرا" عرفته .
فأوقفها عندما بسط ذراعه اتجهها مع جملةٌ قالها
( قفي فأنت لستِ هنا بصفة الحبيبة إنما أنت هنا بصفة الحاجة والمعونة ) وكان بينه وبين نفسه يود أن يأخذها في صدره ويستنشق رائحة صدرها الغائب ولكن أن فعل سيدوس على كرامته بقدميه هذه المرة وليس بقدم أحد النساء
أجابته أني أريد أن أستعيد من صدرك وبين ذراعيك كل سعادتي المسلوبة .
فأجابها ألست من رفضها بجملتك التي احتفظ بها بذاكرتي
( لن أجد تحقيق أحلامي بين ذراعين حبك )
الفتاة : تستلقي بين قدميه تقول اعذرني واعذر غروري
فاليوم عرفت بأني مازلت أعيش في قلبك وحياتك وعقلك
من تلك الصورة التي في الحجرة
يجيبها الشاب من بتلك الصورة ليست أنت بل تلك فتاة كانت تعشق فقري تعشق صدري تعشق أسمي قبل أن تبيع حبي بقصرا" عاجي وحلي" قد تكون حقيقة ولكنها مزيفة بمشاعر هاديها .
فقال لها سأخرج الآن من المنزل وفي الصباح حاولي بأن تعودي إلى بلدتك وإلى منزلك الذي بعتي أجمل ذكرياته بقصر قد يكون كبير إنما هو صغير في دفئه وحنانه .
مسك معطفه ووضعه فوق منكبيه وأغلق الباب بهدوء
وأغـُلق مع ذاك الباب كل مشاهد تلك الليلة الباردة .
: خاتمة :
عزيزي القارئ ربما قصة غريبة بعض الشيء ولكن فيها الكثير من المشاهد الواقعية
فهل كان الشاب قاسي بهذا التعامل مع الفتاة ؟
والسؤال الأهم :
هل الفقير صاحب الجيب المثقوبة لا يعتبر من البشر الذين يملكون قلوبٌ يعشقون بها و يمتلكون مشاعر تتأثر وقد يؤدي دمارها لدمار العمر ؟
أرجو الإجابة على هاذين السؤالين